عن صديق غاب
برفق يرحلون وبعزم يبقون
أحمد محمد امين
يبقون في الذاكرة، في الضمائر النقية، ذي هي مصنفاتُهم تجول بيننا، كم سهروا وجاعوا وقتّروا على نفوسهم، كم ارتحلوا وتوسّلوا حتى ترى كتاباتُهم ضوء أيامنا، وتضيء عمى العيون والعقول. يتساقطون كهباب القش هنا وهناك. في سرابيل الغربة، في احضان الجوع، في كنف المرض، في قاع الشيخوخة. مع ذلك كانوا مُبدعين، يتوسد ذكراهم التأريخُ والمكتبات والزمنُ. أقول هذا وأنا أقرأ خبراً عن رحيل صديقي الأكاديمي التراثي اللامع خلف رشيد نعمان.
تمتدّ صداقتُنا الى ما بعد منتصف عام 1986، يومها كنا مُدرسّين انا وزوجتي فاطمة الحسّاني في معهد المعلمين » بغداد، سبع ابكار » زارني وزارها في قاعة الدرس. ثم غدا صديقنا يكاد يزورُنا كل اسبوع، ثمّ كلّ يوم، وانتقلت زياراتُه الى البيت في حي التربية » الصليخ » وزيارتنا الى بيته قرب الأقسام الداخلية للجامعة المستنصرية. بعد يومين من تعارفنا حمل اليّ اجزاء من مخطوطة كتابه » النظام في شعر المتنبي وأبي تمّام » فتح صندوق سيارته، وارانيها، ثم نقلها الى سيارتي، وسمعته يقول اريدُ قراءتها وتصويبها. قمتُ بعملي خلال شهر، واتعبتني نعومة ُودقة ُخطّه على الرغم من جمالها واناقتها. وابديت ُ ملاحظات على مقدمته الطويلة الباذخة. اتذكّر منها اثنتين. اولاها عن مُعوقات السفر والحصول على الجواز، والثانية أنّ الخليفة المعتصم كان جالساً في مجلس الشراب عندما تناهت اليه صرخةُ المرأة فهبّ لرفع الضيم عنها. اقترحت أن يحذف كلمة الشراب، والإكتفاء ب» مجلسه » فالقائمون على شؤون الثقافة لا ترضيهم كلمة الشراب. ولا صعوبة واستحالة الحصول على جواز السفر ايامذاك للأسباب التي يعرفها ويتذكّرُها كلّ أحد…
كان للدكتور خلف برنامج ٌ صارم في ترويض الوقت وتكريسه للعمل. ثلاث ساعات صباحاً، وثلاثُ عصراً. يوم كان متقاعداً خارج الوظيفة. ولا يستقبلُ صديقاً الّا عبر موعد مسبق، لكني كنتُ خارج هذا الإستثناء، وبرغم ذلك كنتُ احترم وقته ولا اخترمه بعشوائية. اطلعني على كثير من مخطوطاته ومشاريعه واسلوب عمله. وحين باشرت دار الشؤون الثقافية بطبع الجزء الأول والثاني من » النظام » جعلني مشرفاً على تصحيحه. وقد وقعت الطبّاعة وهي فتاة فتيّة في اخطاء شنيعة . وحين اعيدت اليّ النسخة المطبوعة ُ، كانت الكلمة المصححة على مربعات ورقية صغيرة وضعت فوق الخطأ، ومادة اللصق لم تكن بالصمغ، بل بالشمع. والشمع في الصيف يلين ويذوب، لذا تساقطت وريقات التصحيح مثل قلامات الظفر. واعلمته بالأمروبلا جدوى التصحيح. وامتلأت الأرضية التي اجلس اليها بهذه الشظايا الورقية. حتماً سيعود الخطأ الى مكانه ثانية. ولأن كتب التراث التي يحققها الدكتور خلف من العيار الثقيل فقد جابهت اللااكتراث والإهمال ووضع العراقيل أمامه، اضافة الى كون الدار منشغلة بطبع ادبيات الحزب والحرب وكتب الحزبيين والقائمين على شؤون الثقافة. لذلك تلكأ طبعُ النظام.وعرتْه عراقيلُ مقصودة واخبرني أنه سيقوم بارسال مسودات مخطوطاته الى الدول الخليجية لطبعها. استمرت صداقتنا القائمة على المعرفة والشفافية والمحبة حتى ساحة مغادرتي العراق. رأيتُ دموعه وأنا اودّعه. ورأى دمعي ايضاً. حين اطرق بابهم يخرج هو لاستقبالي مردداً هلا..هلا..هلا.. حتى حفظ ابني »علي » هذه العبارة ويُرددها حتى الآن. كان يقرأ كلّ ما انشره في الصحف، ويعلق بخطه الناعم على الحواشي. ما زلتُ احتفظ بها حتى الآن. خلف له صداقاتٌ واسعة لكنه لا يلتقي الا بالقليل. في السابعة مساء ينتهي العملُ ويعنّ اوانُ العشاء الخفيف وملاحقة اخبار التلفاز واستقبال الأصدقاء. خلف لا يردّ على مكالمات الهاتف بعد العاشرة، وينام في ذات الوقت. وحين صدرت مجموعتي القصصية طائر الليل في نيسان 1996 اهديته نسخة. وقطع برامجه واستغرق يقرأ فيها. ليلاً قريباً من منتصف الليل رنّ هاتفنا. فمضيتُ اليه، واذا بصوته يصلني ماذا فعلت بي يا أبا عاطف، صرتُ لا استطيع النوم وارمي بسمعي خارج البيت علّني اسمع صوتَ طائرك. لكن الأدهي ان تلك الخبّازة التي تكلمتَ عنها باتت تقضّ مضجعي واحسّها تجلس لصق فراشي وتوشوش في اذني همساتُها. الهي أين انت يا علي جواد الطاهر لتقرأ هذه المجموعة وتقول رأيك فيها، وكيف حجبوها سبع سنين في ادراج دار الشؤون الثقافية. وظلّ يُحدّثني قرابة ساعة.
في 27» 8»1997 تركتُ العراق، مكثث في عمّان اشهراً ثم غادرت الى مثواي الآمن.وكنا نتبادلُ الرساثل والأحاديث عبر الهاتف. وبعثتُ اليه اول رسالة غبّ وصولي الى الملاذ الأوربي. وتوالت رسائلنا، كنتّ اكتبُ اليه رسائل من بضع صفحات، واخبره عن قصر رسائله. كتبتُ اليه عن كتاباتي الجديدة وما نشرته في الصحف العربية » ولا سيّما في الزمان اللندنية »… واستمرت رسائلنا تترى حتى منتصف عام 2004 ثم انقطعت. لسبب مجهول. كان مُزمعاً على السفر الى خارج العراق. وكان اولاده يعيشون في عمان وفي دول الخليج. ولعله استقر لدى احدهم. بيدَ أني الآنَ احتفظ بحوالي » اربعين رسالة من رسائله » التي لا تتجاوز الصفحتين ما عدا واحدة، قال إنه استغرق في كتابتها عدة أيام.اولى الرسائل مؤرخة في 27»3» 1998، وآلأخيرة قبل ان تنقطع اخباره عني عليها تأريخ 26»11»2004، ولديّ عنده امثالُ هذا العدد، كنتُ اخبره خلالها عن تفصيلات حياتنا هنا في الشمال الأوربي، ولا أفوّت أية صغير ة أو كبيرة ألا واريها إياه كتابة ً، ولعلّ حفيدته علياء السامرائي تُخبرني بعددها. وبما تعرف عن صداقتنا.احياناً كانت تخفّ هي الى فتح الباب إبّان زياراتي له.ولديّ الكثير ممّا يمكنُ قوله عنه. خلل تلك السنين.
خلف رشيد له محبّوه بالمئات وله حسّاد يبهظون حقه، ويسكتون عن ذكره، على الرغم من عطائه الإبداعي الثرّ، وعصاميته، والمعيته، وعلمه، ومُثابرته يومَ كان في مبتدأ ثمانينياته. واذا كان لنا أن نتذكّر الأجلاء من علمائنا مصطفى جواد، على الوردي، المخزومي والطاهر وابراهيم السامرائي ومحمد جبار المعيبد وهاشم الطعان وآخرين في اصعدة اللغة والتراث، فلا بدّ ان تقف بشموخ قامة الدكتور خلف الى جوار هؤلاء العمالقة. وسيقف بينهم، حسبُه ان الّفَ وحقّقَ عديداً من الكتب المهمة. يذهبُ الناسُ ويُنسون، ويذهبٌ المجدُ الكاذب والتلدُ الباذخُ، وتختفي وجوهُ اللصوص والقتلة وآكلي مال اليتامى والأيامى والفقراء الى سباسب النسيان، ويبقى اسم خلف رشيد نعمان ومَنْ ذكرتُهم أو نسيتُ ذكرهم مصابيحَ وضّاءة تُنير للأجيال دروب المستقبل.
تغمّدهم الله برحمته، وتغمّده.
AZP09